(7)
فما إن صار إلى أمّه، قبّل رأسها وبكى، فحَدَبتْ عليه وأشفقتْ ، ورقتْ له وتحَننتْ، وبكتْ لبكائه وقالت : مالك يابني ؟! لقد أخذت بمجامع قلبي ...مالك !
فقص عليها ما كان ، ثم قال والندم يفري قلبه ويُذل عصي دمعه:إني في ضيق ،أكاد أُحبس في جسمي !كم أذنبت! وكم عصيت! كم غفلت! وكم تكبر كم أعرضت ! وكم ..وكم ..!
نسيت أن هناك جنة ونارا ،وحسابا وعذابا، وقبرا وحشرا
وأن الله مطلع وشاهد...فقطع كلامه عبرة تُشفق عليه منها! ثم التفتَ إلى أمه وقال : أيتها الكريمة! استغفري لي خطئي، إني كنت بك عاقا مسيئا! ثم كرَّ راجعا فأراق الدِنان واتلفَ أدوات الطرب فانتشرتْ في الغرفة كِسْراتها ، فأُزيل المنكر!
فبكتْ أمه فرحا ،وتهلل وجهها وأَسْفَر ، فرفعت كفيها وقالت :الحمد لله الذي هداك وفتح على بصائر قلبك!
ثم قال : أماه! أريد أن أظعن، وأشد الرحال إلى (المدينة)، وألازم إماما قد طار فضله وعلمه في الآفاق، وأمّه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، يقال له (مالك بن أنس الأصبحي)! إني عازم على طلب العلم والتفقه في الدين، فقد أشار عليّ بعض الصالحين بذلك محوا لزلتي وغسلا لعثرتي! فإن أذنتي سِرتُ على بركة الله !
فتهللتْ بَشْرة أمه وقالت: ما كنت لأمنعك عن خير قط ! فسر لبُغْيتك موفقا مسددا وأنت في سبيل الله ، ثم جهزته وودعته ودعت له فقال وهو على ظهر راحلته : إن جاء أصحابي فأضيفيهم ثم قولي لهم إني قد سموت وارتفعت واستبدلت السعادة بالشقوة!والقُنّة بالحضيض!قولي لهم أني راحل عنهم، وعن عشرتهم!
فأم (المدينة النبوية) وألم الذنب يلازمه على ظهور السَبَاسِب (الصحاري)، وفي بطون الأودية، وفوق قُلل الجبال:
لهيبُ ذنبيَ نفسي منهُ تحترقُ = وجمرةُ الذنبِ في الأحشاءِ تلتهبُ
والروحُ ضاقتْ وكانتْ قبلُ في سعة ٍ= كأنها من أليمِ الموتِ تضطربُ
قد كفَ الهوى ناظريّ ثم صيرني = كحاطبٍ في ظلامٍ نالهُ عطبُ
أرخصتُ ساعاتِ عمري وهي غاليةٌ = في لذةٍ أثقلتْ ظهري...فيا عجبُ!!